
تم النشر علي موقع بوابة يناير في ديسمبر 2016
وفي كل مرة أدخل فیھا لشراء ملابسي من ھذا المعرض الذي یحمل إسم علامة تجاریة شھیرة، تستوقفني ھذه الصورة! سیدة تبدو في أرذل العمر، أتمعن كلمة "أرذل"، وأھمس لنفسي “ھو لیه اسمه أرذل، یمكن ھنحس فیها برذالة، ولا ده السن اللي ھنستمتع فیه بحیاتنا بعد عمر من الرذالة!”.
رذالة الوقت من أول ما أدركنا الدنیا وجئنا إلیھا مسلوبي الإرادة، أول ألم سببه شھیق وزفیر بعد قطع الحبل السري، أول فیروس اخترق جسدنا الرقیق، أول شق لأسناننا تلاه لیال من الشقاء والتعاسة الموصوفة ب “التسنین”، أول یوم دراسي وتقریبا بنقضي تلت عمرنا في التعلیم بمراحله، نتعایش مع ناس مانعرفھاش، بیئات مختلفة، أمراض نفسیة متعددة، تشكیلة غریبة ننصھر بداخلھا یومیا وتترك فینا أثر انصھارھا، رغبة في استكمال النوم شبه یومیة حتي تنتھي الحیاة، یتخلل تلك الفترة بزوغ ھرمونات جدیدة.
وفي رأي، الھرمونات ھي أسوء مایحدث لنا في المطلق، بسببھا تختلف تطلعاتنا یومیاً في تلك المرحلة، كل یوم بحال، كل یوم بمزاج مختلف، نكبر ویظن أھلنا أن ھمومنا تنقرض، ھمومنا كبرت معنا من مجرد إسھال وقئ طفولي إلي أسئلة وجودیة وبحث عن ھویة وشغف یقتلنا في العثور علي جدید وفي نفس الوقت لا نرغب ونخشي حدوث أي تغییر..
تحضرني كلمات أغنیة عبدالباسط حمودة الشھیرة “بصیت لروحي فجأة، تعبت من المفاجأة ونزلت دمعتي”، نظن أننا نسخر من الكلمات حین نسقطھا علي حالنا، وتارة أخري أننا نسخر من أداءعبدالباسط لھذه الكلمات الفجة بھذا اللحن الساذج..
كنت أصغر في السن وقبل إتمام العشرین، أسخر من السیدات التي تتعمد إخفاء سنھا الحقیقي، أو تشعر بمدح
وثناء حین یجاملھا الحاضرون والغائبون بكلمات تداعب أذھانھن مثل “شكلك مایدیش، لأ ده اللي یشوفك یقول اختھا الصغیرة، إنتي مابتكبریش ماشاء لله”، رغم إن أغلب تلك الكلمات مجرد مجاملات بائدة، مھروسة في كافة الأفلام العربیة والأعجمیة، إلا أن وقعھا السحري یدغدغ أحاسیس المرأة علي إختلاف التوجھات، الطبقات والأجناس.
لم أدري أنني یوماً سأكمل العشرین بل والثلاثین أیضا،ً أصبحت أعلم شعورھن تماما.ً تكبر المرأة علي إن قیمتھا في جسمھا، شكلھا، شعرھا وصحتھا. یكمل ھذا الرباعي المتجانس مملكتھا الخاصة. أحادیث البنات والسیدات الجانبیة، تكون غالبا عن وصفات تجمیل للشعر والبشرة والوجه،“إزاي أشیل شعر زائد، أخبي التجاعید بإیه! ھو أنا ممكن أطول، طیب ممكن أقصر، ھل في طریقة أتسخط تاني وأرجع لسن المراھقة”، جمیعھا أسئلة من ھذا القبیل، ربما یتخلل ھذا الحدیث بعض الأسئلة عن فلان وشكله وصفته ونعته، فلان الذي تسعي حواء لاسترجاع جمالھا للایقاع به أیضا.ً. “السیدات تمیلن لإخفاء أعمارھن، فقط خوفاً من إندثار قیمة مربعھن
الجمالي، ھكذا أصف سبب اخفاء العمر.
أكثر ما أعجبني ویلفت نظري دائما لھذه الصورة، عدة أشیاء، أولھم إن العلامة التجاریة نفسھا قررت التخلي بعض
الشئ في التسویق لمنتجاتھا عن البنت العشرینیة ذات المقاس الصفري المنتشر مؤخرا،ً واختارت سیدة في ھذا العمر وبھذا الشكل العفوي دون إضفاء تغییر في لون الشعر أو التجاعید، تماما علي سجیتھا وعلي ما خلقت علیھ. ثانیا أول مرة أشوف صورة سیدة مسنة -أتمني أكون زیھا لو ربنا طول في عمري-صورة تشع نور حقیقي، لیست كصورة المرأة المصریة البسیطة المنھكة التي تخفي تجاعیدھا ملامحھا الأصلیة، ولا ھي صور مدام “بوتوكس” المنتمیة للطبقة البرجوازیة والتي تتحدث خلف شفاة متورمة وفم بیضاوي.
أنا أرید أن أشبه تلك المرأة فقط، كما ھي، بنفس نظرة الإعزاز والشموخ في عینیھا، بنفس فخرھا بشیب شعرھا كاللؤلؤ المنثور في سماء سیناء لیلًا، سیدة صورتھا ممكن أن تلھم الكثیرات وتعطیھن أملًا في الحیاة، أملًا غیر زائف، أملًا لا یخشي الاندثار، لا یھیب تكاثر سنوات العمر.
نظراتي لصورتھا كل مرة أدخل فیھا المحل، دفعتني أن أطلب من موظف الخزینة “الكاشیر” أن أصورھا خوفا من انتھاء الحملة التسویقیة یوما.ً فكرة أنني لن أصبح قادرة علي رؤیتھا یوما زادت من تصمیمي علي حفظھا في ذاكرة ھاتفي لإسترجاعھا وقتما أشاء.
أنظر لنفسي یومیاً في المرآة لإحصاء الشعر الأبیض في رأسي، أمعن النظر في كل شعرة بیضاء، وأعلم جیدا متي ظھرت.
أول طقطقة بیضاء ظھرت بعد إلتحاقي بأول عمل في أحد الفنادق الشھیرة بوسط القاھرة،
ثانیھم بعد وفاة والدي،
ثالثھم بعد إخفاق أول قصة حب في سنة الخامسة والعشرین،
رابعھم بعد أن خذلني أقرب الأقربین من دمي،
خامسھم بعد أن استمریت في البحث عن عمل لأكثر من ستة أشھر ولم أجد،
سادسھم بعد أن وجدت أخیرا فرصة عمل مناسبة،
سابعھم مع أول نجاح في عملي الجدید،
ثامنھم مع أول ترقیة نلتھا بعد أن حرمت من مثیلتھا في عملي الأول،
تاسعھم بعد أن اشتریت أول سیارة بعد جمعیات وتحویش سنین،
عاشرھم بعد أن أدركت أن سعیي في كل مسابق یساوي صفر!
أنا أفخر بشعري الأبیض وإن كان الآن قلیلًا، لا أدري لما، ربما لأنه یعلم قصتي، ربما لأنه الوحید الذي كان دائما معي بعد ربي، أحبه فعلًا وأتركه یتحدث عني، یدفع أذي، أو یدر مدح،،،
وغالباًسأدع تجاعیدي علي حالھا وقتما تبدأ في الظھور!
0 التعليقات:
إرسال تعليق