الأخري هي إبنتي...جيهان 1&2




تم النشر علي موقع مصر العربية في فبراير 2017

-مبروك يامحمد، تتربي ف عزك، هتسميها إيه؟
-مش عارف يا أما، سميها إنتي، أنا كنت فاكر إنها هتخلف ولد، ولو إني مش فارق معايا، بس طالما طلعت بت، سميها زي ما تسميها.

كانت حرب السادس من أكتوبر 73 قد بدأت لتوها وولدت بعدها "جيهان" في منتصف نوفمبر اللاحق بالحرب، إتجهت أعين العالم صوب النجاح الذي حققته مصر في الحرب، واتسعت تلك الأعين علي زوجة الرئيس السادات، ملقبةً إياها بالسيدة الأولي علي غرار ما يصفون به زوجة الرئيس الأمريكي، فما دعوت أمي لتسمية طفلتي الأولي حتي نطقت:
-هنسميها جيهان، علي إسم مرات الريس، يمكن تطلع حلوة زيها، أو حظها يضرب هي كمان، وتتجوز ريس، وتبقي انت حما الريس يامحمد يابني.
-جواز إيه بس يا أما، البت لسه عمرها ماكملش يوم، هي فين بس والجواز فين ياست انتي، ياخويا، الأيام بتجري وبكرة تشوف.

مرت الأيام وأنا أنظر لإبنتي الأولي تفني شهراً بعد شهر، بعد أربعة أشهر بالتمام، وبعد عودتي من العمل كعادتي، اشتكت زوجتي من بعض ألام الرأس، اعتقدت أنه عرضاً بسيط، ينتهي بأشهر أدوية السبعينات "قرص ريفو أخضر"، بعد دقائق، أغمي عليها. استدعيت الإسعاف، أودعتها أحد مستشفيات التأمين الصحي وبعد ساعتين من الإنتظار أمام قسم الرعاية المركزة، خرج الطبيب منكس الرأس قائلاً "شد حيلك"، في إشارة لوفاة زوجتي.

كل شريط عمري الذي لم يناهز العشرين عام، مر أمامي في لحظة كفيلم رسوم متحركة مطبوع علي نيجاتيف أسود، يحمل أشباحاً في كل مربع، يحده عن التالي فاصلاً فارغ لا محتوي له.
-ماتت، إزاي، دي كانت كويسة، دي لسه مخلفة بنت زي القمر، هو ممكن حد يموت كدة عادي وهو لسه واقف علي رجليه قبلها بمفيش، دي لسه مجهزالي الغدا وكانت بتعملي كوباية شاي، والبت مين يربيها، ياريتني ما اتجوزت، يا ريتني ماخلفت.
-شد حيلك يامحمد، ده قدرها، الدكتور بيقول إنها كانت مريضة بالقلب وحصل لها مضاعفات بعد الولادة، ظهرت دلوقتي، ده قضاها يابني، عمرها كدة، هي بنت أخويا مش بس مرات إبني، وتعز عليا برضه بس دي حكمة ربنا ياحبيبي، لازم نرضي.
-البت ياما، جيهان، دي حتة لحمة، مين يربيها!، أنا مش عايز أتجوز تاني أبداً.
-أنا ياحبيبي هربيها، هو أنا هسيبها، وبعدين أهي من دور اُختك الصغيرة، يتربوا سوا وربنا هيرزق.

سنتان... أمام إلحاح أمي، إستسلمت وتزوجت مرة ثانية، كانت إبنتي قد أتمت عامها الثالث، وأتممت معها عامي الثالث والعشرين، كلانا برج العقرب، كلانا مواليد نوفمبر، كلانا فقدنا ذات النفس، زوجتي وأمها.
عاشت جيهان في منزل أمي، تربيها جنباً إلي جنب مع أُختي التي تصغرني ب خمسة عشر أعوام، فقدت أمي بين أختي وبيني حوالي أربعة أبناء، عاش منهم في النهاية أخين من الذكور وأختي الصغري فقط.

كنت أذهب يومياً لمنزل أمي بعد العمل لأتفقد حال إبنتي، أنجبت زوجتي الثانية ثلاثة أبناء من الذكور، يكبر كل منهم الأخر بعام واحد، حاولت بكافة الطرق إرجاعها عن تلك القرارات، قرارات الإنجاب بصفة عامة، أصبحت أكره الإنجاب بعد أن فقدت زوجتي الأولي وأم طفلتي البكرية وإبنة خالي وحبي الوحيد، لكن محاولاتي بائت بالفشل أمام
إصرارها وحبها لي ورغبتها في إنجاب أبناء يشبهوني، فأنا لا أشبه " الان ديلون- دونجوان السينما الفرنسية"، ولكنها تري في ذلك، ربما هي مرآة الحب العمياء.

أعوام قليلة وتوفيت زوجتي الثانية بعد إصراراً منها علي إنجاب إبنة، نزيف أثناء الولادة أودي بحياتها للمثوي الأخير. ها هو نفس المشهد يتكرر أمامي، زوجة تموت، إبنة تولد بلا أم.
بالطبع، رفضت إستلام الطفلة، أمي هي الأخري لم تعد تملك طاقة لتربية أطفال، إستلمها أحد أخوالها، زوجته كانت تعاني مشاكل في السمع، صمم جزئي. أعلم أن ابنتي ستعاني، لكني حقاً لا أرغب في التعلق بها، هي هم زائد في الواقع، ردة فعلي قد يتعجب منها الكثيرين لكني لم أستطع، لم أستطع فحسب، أرجو من الله أن لا يحاسبني علي هذا الذنب، فقد كنت أعلم أن إرسال طفلتي حديثة الولادة إلي منزل زوجة خالها الصَمَّاءُ هو بمثابة حكم بالإعدام عليها، شهراً واحداً تكفل بإعادتها إلي أحضان والدتها، دُفنت بجوارها.
في زيارة بعد هذه الحادثة إلي منزل صهري، علمت بعدها من جيران خال صغيرتي، أن الطفلة كانت دائمة البكاء ، ربما كانت نداءات لسد جوعها أو تسكين ألام معدتها، كأي طفلة في عمرها، زوجة خالها لم تسمع توسلاتها في إشباع جوفها الصغير.
ماتت الطفلة وأنا حتي لا أعلم إسمها، كأنني إطَّلَعَت الغيب وعلمت أنها ستموت، ورفضت من البداية الذهاب بها لمكتب الصحة وتسجيلها. كنت أدعي أن حالتي النفسية والبدنية لا تدعماني حتي للحركة اليومية، لم يكن إدعاءً محضاً، ربما لم أود أن تشارك طفلة أخري جيهان في قلبي.

أيامٌ قليلة، تزوجت الثالثة علي مضض، يلومنني من يلومون لسرعة الزيجة، تمت بعد مرور أربعين يوم فقط علي وفاة زوجتي الثانية، لكن هم يلومون علي أية حال.

كانت جيهان قد بلغت الثانية عشر، وأستطيع أن أري أنها كبرت وأصبحت بالغة، إستقبَلت خبر زواجي الأخير كزوجة وجدت إنذار علي يد محضر بعقدي علي أُخري، طيبة زوجتي الجديدة جعلت جيهان تلين للفكرة تدريجياً.

إستمريت علي حالي، أذهب لبيتي لأتفقد أولادي الذكور بعد العمل، الذين عاشوا معي ومع زوجتي الجديدة، ثم أذهب يومياً لرؤية جيهان وأعود بعدها لبيتي للنوم ثم الذهاب للعمل في الصباح الباكر، بقينا علي هذا الحال لست سنوات أخري، كانت جيهان أتمت عامها الثامن عشر، كانت نعم العون لجدتها بل كانت أكثر عوناً من أختي الصغري لأمي المسنة.

 كانت أمي دائمة السفر لعائلتها في محافظة الشرقية علي الرغم من طول المسافة بين القاهرة وبين موطن عائلة أمي، وكانت جيهان ترفض أن تسافر أمي بمفردها حين أنشغل، فكانت دائماً المرافقة لها كظلها.

- جيهان هتاخد الدبلوم السنة دي يامحمد.
-عارف يا أماا.
-أنا وعدتها أول ما تخلص دراسة هاخدها ونسافر البلد، أنا النوبة دي مش رايحة لحد يا ابني، أنا كنت نادرة ندر إن لما جيهان تاخد الشهادة، هفرق اللي يطلع من ذمتي عند مقام الشيخ أبوعيسي –أحد أضرحة المشايخ والعارفين بالله-.
-أنا هيكون عندي شغل يا أما، ماتستني في الصيف نروح سوا زي كل سنة.
-ياحبيبي خليك إنت، أنا هروح مع "جي جي" وإنت لما تفضي تعالي خدنا من هناك.

سافرت أمي وجيهان رافقتها، أستطيع أن أجزم أني لم أري نضارةً في وجه إبنتي كما رأيته بعد أن أتمت دراستها، وأن هذا الوجه إزداد إشراقاً فور عودتها من تلك رحلة بالذات.
-كبرتي وبقيتي عروسة يا جي جي.
-شكراً يا بابا.
-قومي ياجي جي إعمليلنا كوبايتين شاي وخففي كوباية أبوكي عشان مابيحبهوش تقيل.
-البت كبرت وإحلوت، سبحان الله، شبه أمها، كلها الممثلة دي اللي اسمها "ملك الجمل"-أشهر أدوارها، حكمت في فيلم الشموع السوداء".
-أه، وإحلوت أكتر لما جالها عريس.
-عريس!؟ منين وفين؟
-أاه، عريس زي القمر، ما هو وإحنا في البلد بنزور مقام الشيخ أبو عيسي، وأنا خارجة إتكعبلت ف العتبة الخشب بتاعة الجامع، لقيت شاب ماشاء الله طول بعرض، مد إيده لحقني قبل ما أنكفي علي وشي، وصمم يمشي معانا لحد البيت، ما انت عارف البلد فيها شوارع مقطوعة ومفيش مواصلة غير الحمير وأنا لا يمكن أركب حمار.
-وإنتي بقا هتجوزيه للبنت عشان وصلك بدل الحمار!
- يوووه، الراجل وصّلنا وجه قعد مع خلانك وخالتك، خدنا وإدينا ف الكلام ومانزّلش عينه من علي جيهان، بعدها بيومين جه زارنا تاني وطلب يقابلها، مسافة سواد الليل، جه طلب إيدها وكان فاكرني أمها، حكيتله حكايتها وقولتله يجي يقابلك.
-كل ده حصل في الإسبوع اللي قعدتوه هناك، إنتوا مابتضيعوش وقت!!!
-يابني دي بركة المقام والنبي بكرة تشوفه وماهتصدق إن هو ده العريس.

مرت الأيام، وكان الموعد المنتظر، عريس إبنتي، متي كبرت!، لم أستطع أن أملي عيناي منها، كيف سيأخذها ذلك الشئ من حضني، في الحقيقة هي لم تكن أبداً ساكنة فيه لكن هي الظروف، متأكد أنني سأجد مئات الأعذار لدحض طلبه...

دخلت غرفة الضيوف في بيت أمي، كعادة البيوت متوسطة الحال، بضع من المضاجع المعروفة ب (الكنب البلدي)، يتوسطها منضدة عليها تليفزيون (نوع تليمصر)، يعرض القناة الأولي بلونين أبيض وأسود. وكأني لأول مرة أري تلك الغرفة، كنت متوتراً لدرجة التعرق ما زاد الأمر غرابة أننا في شهر يناير، أنظر لأثاث الغرفة كأني أستعطفه بأن يكون معي في تلك المقابلة، فهو ما ألفته وألفني في هذه المساحة الضيقة التي سأشاركها لبضع ساعات مع ذلك الضيف الثقيل.

وجدت شاباً في منتصف العشرينات، في كامل أناقته يجلس باسم الثغر ناظراً للتليفزيون، بمجرد دخولي، وقف إجلالاً، تبادلنا السلام، وجلسنا نتحدث، كان يبدو أكثر أريحية مني، برغم أنه في بيتي!

لم تبالغ أمي في وصفها له، بمرور دقائق قليلة، شعرت بأُلفة عجيبة وإنجذاب أكثر لحديثي معه، حكي عن نسبه، أصله وفصله، يعمل كضابط إحتياطي بالقوات المسلحة، يقطن بصفة دائمة في الشرقية، له عدة أخوات ذكور غير أشقاء وحالته المادية جيدة إلي حد يؤهله بفتح بيت.
-مشي خلاص ياماا، تعالوا نقعد برا عند التليفزيون.
-إيه يابني طمنٌي، العريس عجبك؟
-والله لو البت دي ما اتجوزتهوش، هتجوزه أنا، الواد زي الفل، مافيهوش غلطة، عنيه خضرا وفيه شبه من إيهاب نافع الممثل، جوز ماجدة الصباحي ده، أنا عن نفسي موافق عليه.
-كدة يا بابا، إنت ماصدقت، ده أنا قولت هتمسك فيا!!!
-يابنت الكلب ده إنتي هتموتي عليه، وبوزك ملوي من ساعة ماجيت ولا عملتيلي حتي كباية مية ساقعة.
-بس كدة، إنت بس وافق عليه وأنا أعملك اللي إنت عايزه، إنشالله حتي كباية شاي بحالها.
-شوف البت، والنبي يامحمد وافقت!، ربنا يتمم بخير.

حددنا ميعاد الخطبة، وتمت بالفعل، أُقيمت في حديقة مفتوحة، جو من الفرحة العائلية المهيبة في هواء الربيع في أواخر إبريل، كانت تلك المرة الأولي التي أري فيها جيهان مزينة الوجه بهذا الشكل، كقطعة من القمر في فستان الخطوبة بلونه اللاوندي، كانت تشبه زهرة البنفسج التي أعشقها دون غيرها في حديقة تشع ألوانها بهجة، زهرة تضحك وترقص وتمسك يد خطيبها، أروع ليلة قضيتها علي الإطلاق، فزيجاتي كلها كانت تعيسة مترتبة علي وفاة إحدي زوجاتي، حتي زواجي الأول من أم جيهان لم نحتفل فيه بسبب ضيق ذات اليد، الكل اليوم يضحك، الكل يهنئني من القلب، الكل سعيد لها، تصدر ضحكات لم يسمعها الجميع من قبل، يُبادلها الحاضرون بنظرات إعجاب بمظهرها الفاتن كعروس، الكل يعرف مأساتها، يعلم أنها ولدت بلا أم واليوم كُتب لها ميلاداً حقيقياً.








الأخري هي إبنتي...جيهان 2

بعدها، كان يأتي خطيبها للزيارة إسبوعياً في بيت والدتي أو يذهبا للتنزه في وسط القاهرة بعد أن حددنا تفاصيل الزواج وموعد الفرح علي أن يكون في أكتوبر عام 92، عام الزلزال، شهر الزلزال، ياللصدفة!
هل هي رسالة سماوية!، لا أعلم، فقد شهد أكتوبر هزة أرضية أودت بحياة مئات الضحايا وخلفت بعدها خراباً، إستمر أثره قرابة ثلاثة عقود من مبان مهدمة وأسر مشردة.

قبل إتمام الزواج، تحديداً بعد مرور شهرين من الخطبة، ذهبت كعادتي لمنزل أمي، لأجد إبنتي منخرطة في البكاء، وأمي ترتدي ملابس سوداء ولا تتحدث إلا للضرورة، كنت أُفكر، هل مر الموت علي بيتنا كرةً أخري، دقائق حتي إنفجرت أمي في البكاء...
-مالك ياحاجة، بتعيطي ليه بس؟
-جيهان يامحمد، البت دي بختها طول عمره قليل من ساعة ماطلعت للدنيا.
-خير بس!
-خطيبها...
-مات؟
-ياريت، طلع متجوز، وعنده بدل العيل إتنين وقال إيه جاي يقولنا دلوقتي بعد الخطوبة والزيطة...
-إيه!، متجوز!، إزااي؟
-أهيه عندك جوا، إفهم منها لحد ما أعملك شاي.
-مالك يا بابا!، قوليلي بس إيه اللي حصل، وإمسحي دموعك دي بلاش كلام فاضي.
-(باكية)، كنا مع بعض إمبارح بنتفسح في الأهرامات، وروحنا نقعد في مطعم وبعدين في وسط الكلام قاللي إن في حاجة لو عرفتها ممكن ما أرضاش أكمل معاه، إفتكرته بيهرج، لقيته بيطلع بطاقته، ومكتوب عليها عائلية، وصور بنت وولد صغيرين وقاللي دول ولادي، ومراتي لسه علي ذمتي علي الورق، ما طلقتهاش، إنهارت طبعاً وفضلت أقوله ليه ماقولتليش من الأول، رد وقاللي إنه مش بيحب مراته وإنهم منفصلين بس مايقدرش يطلقها رسمي عشان العيال وإنه من أول لحظة شافني فيها حبني مش عارف إزاي.
-خلاص يا بنتي، سيبيه، ده بيستعبط، إزاي ما قالش من الأول، كان بيستغفلنا، هو لعب عيال، وراني كارنيه القوات المسلحة وخبي البطاقة عشان كدة!، ده غشاش.
-أسيبه! بالبساطة دي؟
-ربنا هيعوضك بأحسن منه.
-أحسن من ده؟، ده أحسن حاجة حصلتلي ف حياتي، ده أنا نحس عليك وعلي نفسي، من ساعة ما اتولدت وأمي ماتت وبعدها أم إخواتي منك ماتت ومراتك الأخيرة كانت هتموت وهي بتولد، دي لعنة، كل ماتتجوز واحدة وتخلف تموت!، أنا مافيش حد هيرضي بيا غيره، ده أحلي حاجة حصلت ف حياتي، ده بيسألني يوماتي أكلتي إيه وشربتي إيه، بيتصل بيا علي تليفون الجيران عشان يتطمن عليا، ويسألني لو محتاجة حاجة، جابلي هدايا وفسحني، بيقوللي كلام عمري ماسمعته من حد، كلام من غير شفقة علي المسكينة اللي أمها ماتت، واتربت يتيمة، أو الخدامة اللي قاعدة تخدم في بيت جدتها عشان ماتروحش بيت أبوها ومراته، ماحدش فيكوا عمره حس بيا ولا عارف أنا فيا إيه، هو الوحيد اللي حبيته وحبني وحسسني إني ست، أنا مش هسيبه، طبيعي إنه يكدب لأنه عارف إننا مكناش هنوافق وإستني لحد ماعرفته وعرفني، ما جايز كنت ما اعجبهوش، بس لما عجبته قاللي الحقيقة، أنا بحبه، ده نصيبي وأنا راضية بيه، ماجتش علي دي يعني...
-راضية بإيه يابت، هو بمزاجك، ده غشاش، ومتجوز، ومراته عايشة وعنده عيال، أنا هسيبك تفكري وتعقلي نفسك.

جلست أتأمل كوب الشاي، كيف إجتمعت كل تلك الحبات الصغيرة لتُكون هذا الترياق، كيف توحدت لتعطي لوناً واحداً ومذاقاً لا مثيل له، كأنها تجانست لتسترضيني، لا تخيب أمالي أبداً عكس بعض البشر، لا حلواً ولا مراً، ما بين ذلك وذاك، كدواء يصفه حكيم مٌحنك، تشربه في الفرح والعزاء، زاهداً في تكلفته، عظيماً في قيمته.

-إيه يابني، ناوي علي إيه؟
-مش موافق يامااا ومش هوافق.

مضي إسبوعاً، حتي وجدت مكالمةً هاتفية من خطيب إبنتي علي تليفون منزلي، حدد معي موعداً للمقابلة، جاء يعتذرعن سوء التفاهم وكيف أنه لم يتعمد عدم إخباري بزيجته الأولي، أزعم أنني لا أذكر شيئاً مما قاله في تلك
الجلسة سوي كوباً من الشاي استرسلت في النظر إليه، أخذ يتحدث كثيراً ما بدا لي كتمتمة لم أعطها قدراً من الإهتمام، كنت أعلم أن الأمر منتهي، وأن لا مجال للرجعة.



في اليوم التالي، لم أذهب للعمل ،ذهبت لزيارة صباحية لمنزل والدتي علي غير العادة.
-قعدت معاه؟
أاه، ومش موافق ومش هوافق.-     
-البت بقالها إسبوعين مابتاكلش ولا بتشرب، عنيها بقت زي القوطة، لو مش هتوافق، هروح البلد أجيب خال من خلانها يبقي وكيلها أو حتي واحد من إخواتك إنت.
-البلد؟، بقوا حلوين دلوقتي أهلها!، مش هما دول ولاد أخوكي، ولاد خالي، نسايبي، إخوات مراتي، اللي بعد ما أختهم اتدفنت، عملولي محضر، وطلبوا تشريح الجثة، وبيتوني ف الحجز، وقبلوا إن الدكاترة يقطعوا ف جتة مراتي، أم بنتي، اللي ما كملتش خمس شهور!، بقوا حلوين!، دول ماكلفوش خاطرهم يتأسفوا بعد ما تقرير الطب الشرعي طلع، وأثبت إن الوفاة طبيعية بهبوط حاد في الدورة الدموية، دي جزاتي إني خايف علي مستقبل بنتي، عموماً إعملي اللي إنتي عايزاه ياحاجة بس أنا براها.
-يعني إيه؟
-يعني جوزيها بأي طريقة بس أنا مش أبوها.

إنقطعت عن زيارة والدتي لثلاثة أسابيع حتي وجدت إبنتي وخطيبها وأمي يزورونني في منزلي، جلسوا يقنعوني، لم ولن أقتنع، لم أعطهم مباركتي أبداً. مرت الأيام وأنجبت زوجتي بعد تلك المقابلة بإسبوع، وفي غُمرة إحتفالتنا وإنشغالنا بالمولود الجديد، كان خطيب إبنتي معنا، حتي إعتدت وجوده، وتناسيت خطأه الفادح، بمرور الأيام والمواقف، أحببته مجدداً، دعانا للذهاب لمقر إقامة عائلته بالشرقية، وذهبنا بالفعل، وبمجالسة أقرانه وإخوانه، علمنا عن المشاكل التي دبت بينه وبين زوجته قبل معرفته بإبنتي، حديثه عن الإنفصال كان حقيقياً ومطابقاً لما حكي، علمنا أيضاً عن مدي كره إخواته غير الأشقاء له ولأشقاءه بسبب الميراث وبعض الخلافات العائلية.

مر شهران، وتم الزواج قبل الزلزال بأيام قليلة، إنتقلت إبنتي للإقامة بالشرقية، حاولت الإتصال للإطمئنان عليها وباءت محاولاتي بالفشل، ذهبت لأمي وجدتها تبكي، تنتظر خبراً يطمئنها علي إبنتي، إصطحبتها وذهبنا سوياً في قرار لحظي إلي مقر سكن إبنتي في المحافظة الأخري، وجدناها في أحسن حال، سعيدة وكأن زلزالاً لم يحدث.

مرت الأيام وسُررنا بخبر حمل إبنتي، حفيدي الأول، كنت أخشي أن تلحق هي الأخري بأمها وتترك لنا طفلة جديدة، كم أكره رأسي، أرغب في تهشيمها، تراودني أفكاراً بشعة تحول السرور لتعاسة، أرغب في تهميشها، لكن سرعان ما تراودني مجدداً.

كانت ولادتها متعسرة، لكن رزقت بمولود جميل بعد تمام تسعة أشهر علي الزلزال أو زواجها بالأحري، كانت الولادة متعسرة بعض الشئ، كدنا نفقد فيها إبنتنا الغالية، لكن عناية الله فاقت كل بلاء، إنغمسنا في الإحتفال بالطفل الجديد، عائلتنا زادت فرداً، ذلك الفرد هو حفيدي الأول، أصبحت جداً، مازلت طفلاً، أتخطف أكياس الحلوي من حفيدي وأبنائي وأشاركهم ألعابهم أحياناً رغم همومي ومشاغلي.

مرت شهور، وكان باقي علي الإحتفال الأول بميلاد حفيدي شهرين، ذهبت لمنزل إبنتي ف ثالث أيام عيد الأضحي، لمباركة العيد، جلسنا نضحك ونهلل، نتبادل الحكايات والنكات منتظرين عودة زوجها من زيارة قام بها منذ الصباح الباكر لبيت أُمه وعائلته وأبناءه وزوجته المنفصلة عنه، إنتظرنا طويلاً حتي نسينا أننا ننتظره،،،

دق جرس الباب، الذي ما انفك طارقه عن إزاحة يده عن هذا الزر المزعج اللعين، فتحت جيهان في هلع، لتجد جارهم باكياً، يُخبرها بأن زوجها مصاباً في حقله المواجه لمنزل أمه، هلعنا أنا وإبني الشاب الذي يصغرها بأربعة سنوات، وتركنا إبنتي تنتحب مع إبنها الصغير في منزلها،،،

وصلنا لمكان منزل أمه الثكلي، لنجد أهالي القرية مجتمعين في مشهد يشبه العراك،  تدافعت لأقتحم هذا الحشد، فصُرعت عيناي بزوج إبنتي غارقاً في دماءه، ممدداً علي الأرض.
جلست أصرخ، وأستنجد بمن يطلب سيارة الإسعاف، فلسوء الحظ، تعطلت سيارتي، وإضطررت لاستقلال قطار للقيام بهذه الزيارة النحسة،،،
جائت الإسعاف، ووَجَدتْ صعوبة للدخول في أقرب نقطة للحقول،،،
ذهبنا للمستشفي، وما إلا دقائق، حتي صَعقنا الطبيب بخبر وفاته، لفظ الشاب أنفاسه الأخيرة، لم أعد قادراً علي الوقوف، شعرت بشلل في قدماي ولساني معاً، صمتْ تام، ثم إنفجرت في البكاء كالنساء، لكن لا وقت للبكاء الان.
قام أهله بإتخاذ الإجراءات اللازمة وفهمت من محضر الشرطة أن أخوه الأكبر والغير شقيق له، سدد له طعنه إثر بعض الخلافات مع أخيهم الأصغر، كان زوج إبنتي يتوسط لإصلاح سوء التفاهم بينهما، لم يكن المقصود بالطعنة، لكن تلك هي الأقدار، تسير جنباً إلي جنب مع سُفناً، تُجبرها رياحاً لم نشتهيها، علي السير في طرقاً لم نسلكها!

لو أني أعلم أن سفر والدتي وفاءً لنذرها بعد تخرج إبنتي، وحصولها علي شهادة الدبلوم، أنها ستتعثر في عتبة مقام الشيخ أبوعيسي، وأن غريباً سيقدم لهم العون والمساعدة، أو أن الغريب سيصبح قريب ثم يصبح حبيب، لخبأت إبنتي في سابع أرض حتي لو عاشت وماتت عانس لم يطرق بابها أحداً.

تحول المحضر لقضية، وسُجن أخوه بتهمة القتل الخطأ لثلاث سنوات فقط، دفع دية لأبناء أخيه تعويضاً عن دم والدهم، وتم التحفظ علي الأموال بمعرفة المجلس الحسبي.
ثمان سنوات علي وفاة زوجها، تقدم لخطبتها عشرات الرجال، الشائع بينهم أنهم جميعاً متزوجين، يرغبون زوجة أخري، كأنها كَتبت علي جبينها ألا تكون الأولي أبداً، خاصةً بعد أن أصبحت أرملة تحمل علي يديها طفلاً لآخر، حتي تزوجت بالفعل من مُطلق، أنجبت منه وتعيش معه حتي الأن.

تلك هي الأخري، تلك هي إبنتي، أعلم أن الجميع يظن أنها سرقت رجلاً من عائلته، لكن ذلك لم يحدث، لم يكن سعيداً مع الأولي، وإبنتي لم تكن سعيدة سوي في الوقت الذي مضياه الإثنان معاً!


شاركه على جوجل بلس

عن Mai Hanem Hamada

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق